رام الله – خاص قدس الإخبارية: "الشهداء يحبون العودة إلى الضيعة قبل الجنة" يقول مظفر النواب، إلا أن القول بقي قولا، فالشهداء لم يعودوا بعد إلى القرية ليتنفسوا رحيق أزهارها للمرة الأخيرة، وبقوا عالقين في ثلاجات الاحتلال، لا يلتحفون التراب بعد. وبقيت قبورهم مفتوحة وباردة تنتظر عودتهم المؤجلة إلى حين.
لم تودعهم أمهاتهم، ولم يلتف أحباؤهم حول قبورهم، وبقيت كلماتهم الأخيرة سجينة أنفسهم دون أن تُروى مراراً وتكراراً. ففي الخامس من شباط الجاري، حفرت عائلة نوفل في قرية رأس كركر قبرا ظل مفتوحاً، وقد حفرته لابنها الشهيد خالد نوفل، الذي قتله في ذات اليوم أمن بؤرة استيطانية أُقيمت على جبل الريسان في القرية، بعد أن اتهم خالد بمحاولة تنفيذ عملية فدائية خلال توجهه إلى أرضه في المنطقة.
تعلم عائلة نوفل، كما سبق وحدث مع عائلات فلسطينية كثيرة، أن جيش الاحتلال لن يُسلم الجثمان مباشرة، وسيماطل في تسليمه، لكنها أصرت على حفر القبر في مقبرة رأس كركر تأكيدا على حق العائلة باستلام جثمان نجلها ودفنه وفق ما تقتضيه الشريعة الإسلامية، بعد تشييع مهيب كما يحدث مع كل شهيد، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن كون الشهيد أصبح محتجزا في ثلاجات الاحتلال الباردة.
مروان نوفل قريب الشهيد يروي لـ "قدس الإخبارية": "حفرنا قبر الشهيد في ذات يوم استشهاده، وفي اليوم التالي أنهينا العمل فيه وأصبح جاهزاً ليحتضن جثمان ابننا الشهيد خالد". ويضيف: " ليس لدينا أي معلومة حول موعد التسليم، ولكن العائلة لديها بصيص أمل بأن نستلم جثمانه في الوقت القريب.. الاحتلال يزيد فوق جريمته جريمة أخرى تتمثل باحتجاز الجثمان".
ويتابع: "الاحتلال يقهر الفلسطيني بشتى الطرق، فهو قتل الشهيد خالد، واحتجز جثمانه، وهو يعلم أن العائلة تنتظر على أحر من الجمر أن ترى الجثمان، وتصلي عليه وتزفه شهيدا في جنازة تليق به، ثم تواريه الثرى في قبره المفتوح، وهذا أقل ما تطلبه العائلة المكلومة الحزينة على فقدان نجلها".
74 شهيدا، كلٌ له حكاية وقصة وعائلة تنتظر أن يعود لتودعه الوداع الأخير ثم تواريه الثرى في قبره المفتوح منذ استشهاده، فغالبية عائلات الشهداء فتحت قبورا لأبنائها الشهداء، عل الإفراج عنهم يكون قريبا.
ويحتجز الاحتلال 74 شهيدا من الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ عام 2015، معظمهم يتم احتجازهم داخل ثلاجات، فيما تم نقل أربعة شهداء إلى ما يعرف بـ"مقابر الأرقام"، وجزء من الشهداء يرفض الاحتلال إعطاء أية معلومات عنهم. وفقا لمنسقة الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، سلوى حماد.
وتشير حمّاد إلى أن 254 شهيدا وشهيدة يرفض الاحتلال تسليم جثامينهم وإعطاء أية معلومات عنهم سوى أنهم في مقابر الأرقام منذ عام 1967.
في مخيم عايدة غربي مدينة بيت لحم جنوب الضفة المحتلة، وفي مقبرة المخيم، ثمة قبر لا يزال مفتوحا منذ تموز 2016، بانتظار عودة جثمان الشهيد عبد الحميد أبو سرور الذي احتجز الاحتلال جثمانه بعد تنفيذه عملية فدائية في مدينة القدس المحتلة.
قبر سرور المفتوح أصبح مكاناً تزوره عائلة الشهيد في كل مناسبة، على الرغم أن القبر لا يزال فارغا بلا جثمان، فهو المكان الوحيد الذي يمكن للعائلة أن تزوره وتتخيل جثمان عبد الحميد فيه، كون الاحتلال الإسرائيلي يرفض أن تزور العائلة الجثمان الذي نُقل إلى مقابر الأرقام.
أزهار أبو سرور، والدة عبد الحميد، تقول لـ "قدس الإخبارية"، "حفرنا قبراً لابني بعد استشهاده في مقبرة المخيم، وبجانب القبر هناك سارية لعلم فلسطين وصرح لشهداء المخيم، نذهب باستمرار لزيارة القبر ونعمل على تنظيف محيطه وتجديد سارية العلم المقامة بجانبه، ونتعامل مع هذا القبر المفتوح وكأن الشهيد فيه".
وتبين أبو سرور أن أهالي الشهداء عندما يحفرون قبوراً لأبنائهم الشهداء دلالة على أنهم لن يتنازلوا عن حقهم في تسلّم جثامين أبنائهم، وتكريمهم بزفة الشهداء ودفنهم. وتشير إلى أن مشاعرها كوالدة شهيد تكون صعبة عند رؤية القبر مفتوحاً، ولكنه يشعرها بالارتياح قليلاً كونها لا تزال تؤمن أن جثمان نجلها ستستعيده يوماً ما، وسيكون داخل هذا القبر بجانب شهداء مخيمه ووطنه.
أزهار تستمد أمل استعادة جثمان نجلها من تجارب أهالي الشهداء السابقين الذين احتجز الاحتلال جثامينهم لسنوات وشهور. كحال محمد عليان، والد الشهيد بهاء، الذي فتح أربعة قبور واستعد أن يدفن نجله بواحد منها، بعدما حاولت مخابرات الاحتلال فرض شروط قاسية عليه، وذلك قبل أن يتسلم جثمانه بعد عدة شهور، ويوارى جثمانه بإحداها.
محمد عليان، يروي لـ "قدس الإخبارية"، أن "القبور المفتوحة" مصطلح أوجدته عائلات الشهداء الذين حرمهم الاحتلال من استلام جثامين أبنائهم، وهي رسالة منهم على أنهم لن يستسلموا ولن يهدأوا وسيستمرون في نضالهم من أجل إغلاق هذا القبر بالطريقة الطبيعية، أي بعد استلام جثمان الشهيد ومواراته الثرى. ولفت إلى أن العائلة ليست فقط من تنتظر عودة الشهيد، بل إن القبر أيضا ينتظر أن جثمان الشهيد.
"الروح عند الله والجسد لا قيمة له ولا مشكلة بأن يدفن في أي بقعة في فلسطين فهي أرض مباركة"، هذه المقولة تُغضب أهالي الشهداء وفق ما يقوله أبو البهاء. ويؤكد على أن كل أرض فلسطين مباركة وستحتضن الشهداء في أي بقعة فيها، ولكن الشهيد يجب أن يعود لعائلته وأن يودعه أقاربه وأصدقاؤه وأحبته، ويشيعوه كما يليق به، ويُدفن في مكان قريب من العائلة كي تستطيع زيارته متى تشاء.
ويضيف، "لا يبالغ أهالي الشهداء عندما يزورون قبور أبنائهم المفتوحة، فعندما كان جثمان بهاء محتجزاً لدى الاحتلال كنت أتخيل أنا ووالدته شكل قبره وكيف سنزوره ونناجيه، وهناك أمهات لشهداء يذهبن للقبور الفارغة وكأن الشهيد موجود بداخله ويضعن عليها باقة ورد ويقمن برش الماء عليه، وهذا بعيد عن المبالغة، إنما هي مشاعر حقيقية وإشارة للمجتمع بأكمله للتحرك من أجل استرداد هذه الجثامين".
عائلات الشهداء تؤكد على أن معركة استرداد الجثامين ضعيفة، كون العائلة تجد نفسها في النهاية تقاتل وحدها من أجل هذا الحق الطبيعي، في ظل تقصير المسؤولين والجهات الحقوقية. وتسعى عائلات الشهداء المحتجزة جثامينهم بشكل مستمر إلى أن تجعل من قضيتهم قضية الكل الفلسطيني وجزء من قضيته النضالية المستمرة ضد الاحتلال وممارساته.